January 2014
Douaihy draws the portrait of society, in his new novel “American neighborhood “, where each sentence imprints on the reader’s mind an evocative primeval image.
The first picture [Douaihy] draws [is of this neighborhood] (…), and the reader delves into its paths, not only visually, as Douaihy’s strategy is to recruit all the readers’ senses, and to make of him an actor of these past times, while he articulates our memories, ancient and recent.
:: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: ::
رسّام مجتمع هو جبور الدويهي، في روايته الجديدة، “حي الأميركان”، الصادرة لدى “دار الساقي”، حيث كل عبارة يخطّها، لوحة تستثير القارئ بأسلوب حياكتها البدائية، الفطرية. كمن يستمع إلى حكواتي من أزمنة أفلت وظل صدى صوته فاعلا في افتعال الحدث وإشعال حميّة السمع بوسائله السردية اللاقطة بتتبيلاتها المرّة والطريفة، الدرامية والساخرة، كما في دوزنة المشهد، تاركاً له مخارج ضمنية، ماكرة، تتلقّفها الفصول الآتية من دون أن يتيه السرد الذكي عن مآربه مهما أطال في حض قريحة القارئ على ما سوف يكتشفه من أحداث لا تكون في بال.
“هذا الحي عرف بحي الأميركان نسبة إلى المدرسة الإنجيلية المهجورة التي تمركز في مبانيها المتهالكة طوال سنوات ما يسمّى فرع المخابرات الجويّة المرهوبة الجانب”. هكذا وبعبارات مستترة يلقّم الدويهي قارئه حقبات تتالت على المدينة الفيحاء كما كان لقبها، لفوح زهر الليمون في بساتينها حين يحل الربيع حاملا إليها محاصيل من الحمضيات. بيد أن الكاتب لا يتيه في الحنين إلى هذا الماضي، ففي حبره مأساة تغرق في سوادها شبيبة المدينة محوّلة إياهم على سواعد الأصوليين قنابل موقوتة، تستبيح القتل.
لكن لماذا التسرّع وفقء الدملة مبكراً، في حين أن القارئ لا يزال في بداية مطالعته ما اعتبره في مطلع الفصول الأولى، قصة ناس بسطاء، يعبرون سكة الأيام الرتيبة برضى قدري لا عتب فيه على أعيان مدينتهم الأثرياء الذين لا يتذكرون وجودهم إلا حين يقرع جرس الانتخابات، فيهرولون ككقطيع الغنم إلى صناديق الاقتراع ، والاطمئنان الى صحة البيك وتمثاله المعتز بجاهه في وسط المدينة.
يجيد جبور الدويهي استثارة الأحداث المتتالية بإضاءته على تاريخ المدينة، بالنور النائص أولا، ثم بحقن الشعلة تصاعديا بأسلوبه المروي بسلاسة الأدب الشعبي، تاركا اللغة الفصحى جانبا لمحكي مبسّط، متداول بين الناس، ومعرّى من الغرور اللغوي، متساو مع الانسان الدمية الذي تتلاعب به الأحداث إلى أن يتيه بغبائه وجهله عن جذوره وهويته الوطنية، مشلّعاً، ومعه المدينة المتحوّلة زواريب من الأحقاد والتصفيات.
ها هو في “حي الأميركان” يعيد الأحداث التي كانت سببا في تدهور معالم المدينة الفيحاء إلى “الهداية الاسلامية” حيث حياة جديدة لمتطوّعين في المساعدة على الخدمات التي تقدمها الجمعية. من بينهم إسماعيل بن إنتصار، الذي تلقى مصحفا مجوّدا على شريط ويستمع إلى شيخ يكرز أن الجهاد فرض نظرا لما تتعرض له أمة الأسلام في العراق من عدوان.
تفاصيل يدقق فيها جبور الدويهي أساسات لقصة هي من واقع ما يجري في لبنان، وتدل على مزاج كاتب لا تستريح جملته وتتبلور إلا بتنويسات حسّوية تنساب كأمور من الذاكرة يجب أن تدق مساميرها في اللوحة لتثبيت مفاعيلها. هكذا نتعرّف إلى شخصيات حي الأميركان. هوذا عبد الرحمن بكري الملقّب بالمشنوق لأسباب عائلية ضاع ذكرها، يعيش مع زوجته التي تكبره سناً، وأولاده الخمسة في بيت من الحجر الرملي. هذه المقدمة كان بإمكانها ألاّ تكون لو لم يؤجّر المشنوق لضيق الحال غرفتين من بيته إلى بلال محسن وعائلته، المؤلّفة من زوجته إنتصار وإبنه البكر إسماعيل وصغيرين لا دور لهما في القصة. يغدو إسماعيل شخصية الكتاب الأساسية. إختفاؤه المفاجئ يسرق نوم أمه. إنتصار تعمل خادمة لدى وجهاء من آل عزّام كان لهم مقامهم في السياسة والانتخابات ولم يبق من زعامتهم سوى البيت بأثاثاته الفاخرة، تقوم على رعايته إنتصار خادمة البيت، وإبن، عبد الكريم، عاش حياته في باريس ولم يعد إلى الوطن إلا لينسى قصة حب كبيرة مع راقصة باليه.
يعطي جبور الدويهي قارئه إجازة من نشاطات جمعية الهداية، شاعرا، رومنطيقيا، يروي قصة حب مثيرة عاشها عبد الكريم عزام مع فاليريا التي تفاجئه بتخليها عنه وعودتها إلى بلغراد بلدها، حاملا منه. في البيت العريق يسكر وينام ويستمع إلى ماريا كالاس، وعيناه شاخصتان في صورة الراقصة على رؤوس اصابعها، فيما إنتصار تنظف وتغسل وتطبخ له. إلى أن يتبلبل التاريخ المعاصر الرهيب بما يحدث اليوم من إرهاب، لكن جبور الدويهي يتمهّل في تلوين لوحاته برمادي القهر أولا، ولا يستعجل في حقن ريشته بالأحمر الدامي، لنتآلف مع تركيبة هذا الحي الذي به يختصر كما يقول، نبض المدينة عبر تحولات الزمن، فنعلم منذ السطور الأولى أن الحي يطل على نهر المدينة حيث لا حيلة للمساكين للوصول إلى بيوتهم سوى صعود الأدراج العديدة، فيتعاونون على نقل الأثاث والمرضى أو يلجأ من تسمح له حاله إلى خدمات عتال من سوق الخضر القريب.
هي الصورة الأولى، التي منها جعل المؤلّف رسما لغلاف الكتاب، وعبر تضاريسها يهم القارئ بالتوغل في سراديب حي الأميركان المطل على القلعة الصليبية، ليس بالعين وحسب فلجبور الدويهي ستراتيجيا يخطط لها بروحه الظريفة، الطريفة، في تشغيل حواس القارئ وجعله عنصرا من زمن عاشه بين التقاليد البائتة والثورة عليها، محرّكا على كل سطر مشهدا من أزمنة متفرّقة، تتباعد في الذاكرة وتتقارب، يجيد طبخها ببهاراته اللاسعة في خلقين التاريخين القديم والحديث، ولا يغربلها حتى يبقى السوس هو العنصر المخرّب، الناخر، عائما على سطحها يكشف عورات الانسان في علاقاته مع ذاته، مع أفراد عائلته، وجيرانه، في تيه جيل أهمل القدر أحلامه، وغض نظره عن مستقبله فجعل من الشارع قضيته المصيرية، تلك التي يتخيّل بصيصها في الثورات الدامية على الساحات العربية، ينعش بها غرائزه الدفينة، تلهيه عن عدمه وفقره. حي الأميركان، منه تنطلق القصة، مع إسماعيل الملتحق بالجهاد، مرسلاً إلى العراق في عملية إنتحارية راضيا عنها شهيداً لأمة الاسلام. أحداث إقليمية كبرى تمتص سمومها المدينة التي كان هواؤها ملفوحا بروائح زهر الليمون، فيصبح ملغوما، مشوّشا بروائح الاغتيالات والتصفيات الطائفية والعقائدية.