Press
January 28, 2011
A novel that should be read out loud – one more great review of Douaihy’s ‘Chased away’

A novel that should be read out loud – one more great review of Douaihy’s ‘Chased away’

Jabbour Douaihy’s “Chased away” is a reservoir of events and problematics, served to us in the form of fiction. It deserves to be read out loud. This novel is comparable to a house made of windows, each one looking in a different direction. The house is in the midst of time, the time of the Lebanon war. Perhaps Douaihy is the only writer who avoided the trap of compliance, choosing a party over the other, in his narration of the Lebanese war. He does not express any ideological bias through one of his characters. He does not rely on critique to cleanse his own past, or take up a general humanist stand. Such is the case of many works, the authors of which fall in the abyss of interpretation and theory, or attempt to incriminate some of the factions over the others. Douaihy is also the only one to have explored the question of sectarian “differences”, in order to weave an impressive literary ground on its basis, which carries out the existential “difference” of a single individual.

Review by Mazen Maarouf for Al Nahar (translated using Google translate).
Full Arabic article below.

:: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: ::


خزّان من الأحداث والإشكالات في قالب روائي يستحق أن يُقرأ عالياً
 
 
تشبه رواية “شريد المنازل” (دار النهار) للكاتب جبور الدويهي، بيتا مصنوعا من نوافذ، كل واحدة تطل على اتجاه ما. البيت موضوع في وسط
الزمن، زمن الحرب اللبنانية. قد يكون الدويهي، الأديب الوحيد، لم يسقط في فخ الامتثال لطرف على حساب آخر خلال سرده للحرب اللبنانية، أو الانحياز عبر شخصياته المتنوعة إلى اتجاه إيديولوجي دون سواه، أو اتكائه على النقد لتنظيف ماضيه، أو تسجيل موقف إنساني رؤيوي شامل، كما هي الحال في بعض الأعمال الروائية التي يسقط أصحابها في بئر التنظير، أو محاولة إزاحة أسباب القتال إلى فلان وجماعته دون سواه. كما قد يكون الدويهي الوحيد استثمر مسألة “الإختلاف” الطائفي في لبنان، لنسج أرضية أدبية باهرة على أساسه، تنفذ إلى “خلاف” وجودي لدى فرد واحد.
 
كذلك، فإن الدويهي لم يعتمد على التوثيق أو التاريخ أو الحكاية الشعبية المتداولة، كمكوّن رئيسي للعمل، فالرواية ليست سيرة مكان، ولا هي أيضا سيرة عائلة، أو طائفة في عينها، بل سيرة وطن بأسره، ينعكس مشظّى، أو نتفا متفرقة، كل منها حاضرة في شخصية فرد من أفراد الرواية. نستطيع على سبيل المثال استشفاف رمزيات عدة من المشهد الوارد في أول الرواية: بوليس درّاج يصطدم بشاحنة “ترابة وطنية”، يقذفه الحادث في ملاّحة ويموت، يقف الجميع متفرجين، فيما يهرع بطل العمل نازلا من البوسطة التي كان يستقلها إلى بيروت وتحوي خليطا من الأديان. يحاول نجدة الدراج، لكن الأخير يكون قد فارق الحياة، يخرج عندها من الملاّحة و”الدم حتى ركبتيه”. يصل بيروت ويدخلها و”الدم حتى ركبتيه”. 
من يقرأ “شريد المنازل”، سيدرك حتما، أنها رواية لا تتسلق عمود الحرب الاعوج لتنصب رايتها فوقه. الحرب لا تغدو أبعد من ظرف حياتي، تفصيل “مطوَّل” يضطر الشاب، بطل العمل، والمسمّى نظام، أن يختبره. الحرب هنا، موظفة بشكل دقيق، ومثير للاهتمام، حيث أنها اولا ليست حرب المفجوعين، ولا التراجيديات، ولا البكائيات، ولا الفقدان، ولا التفجع، ولا التشوه، ولا الخسارة. هي حرب تساهم في تشكيل محيط البطل، فتدخله في متاهات شخصية، وعلاقات صداقة بين الطرفين المتنازعين، “اليمين” و”اليسار”، الممتدين في اكثر من اتجاه، كأن كلا منهما ذراع، تتشعب في غير اتجاه، وتتلامس من بعيد مع الاطراف المتنازعين كافة.
 
هذه الحرب، بوصفها حدثا جللا، تتقارب في العمل مع الخلفية الاجتماعية للبطل نظام. فالتناغم بين الخلفية الخاصة لشاب من شمال لبنان، والخلفية العامة لتاريخنا المعاصر، موجود بقوة. عوامل الربط كذلك، ما بين إشكالية الدين على المستوى الفردي، والمستوى الجماعي، والنتائج التي يمكن أن تتمخض عنها هذه الإشكالية، اجتماعيا وسياسيا، تكاد تكون شديدة التماثل، عبر الأدب، وليس استعراض التاريخ، وهذا ما يرفع العمل إلى قيمة تتعلق بالخلق وخصوبة المخيلة ونضارتها، عوضا من حشره في مربع الوثيقة التاريخية. 
فالشاب هو الشخصية الرئيسية في العمل، وقد اختار الدويهي أن يسميه نظام، الإسم الذي يتناقض مع  حياته التي يسلك فيها ممرات متشابكة، تتعلق بالهوية الدينية أساسا، من دون أن ترتقي إلى رتبة المأزق بالنسبة اليه. إشكالية تظل محفوظة في “المرطبان” الديني، المحدود، من غير أن يسمح لها الكاتب، بامتدادات قد لا تتجانس مع بناء شخصية نظام، منذ طفولته، وهي الشخصية المتذبذبة بين حالتين، وغير المنفصمة في الوقت ذاته. قد يكون بناء الشخصية الرئيسية في العمل، هو اول ما ينبغي النظر إليه، حيث انها شخصية حيادية إلى حد كبير، محبة، كريمة، غير مشوبة بالنيات الخبيثة أو اللئيمة، عنيدة، واثقة ومنقادة إلى عواطفها.
 
هذه مقومات، أسسها الدويهي امامنا في العمل، وعندما أدخل فيها الحدث الأكبر (الحرب)، أبقى هذه الحرب كتفصيل “مطول” كما ذكرنا، لأن في مقاربة شخصية نظام بشخصية الحرب، مجازفة قد تدفع إلى خلق مسافات واسعة وغير منطقية بينهما، مما قد يضعف من تماسك صفات نظام في العمل. لذلك، تشكل الحرب جزءا، مشوِّشا على مشاريع الشاب، من دون أن تنبثق منها ردود فعل تأتي بجعل نظام “بطلا خارقا”. هذا ما اعتمده الدويهي، لشخصية نظام طوال صفحات العمل حتى اللحظات الاخيرة، وقد شكّل الدعامات او البنى التحتية التي استطاع الكاتب أن يضع حولها الشخصيات الأخرى المختلفة ويحركها، وأن يتمدد في كل شخصية على حدة، حتى تصبح كلها شخصيات لو وضعت في غرفة واحدة لتقاتلت حتى الموت، خصوصا أنها تنتمي إلى زمن هو الحرب. فنظام يجمع حوله الرفاق والاصدقاء، من مسلمين ومسيحيين ويساريين، و”أغراب” ورسميين، قرويين ومدينيين، متزمتين دينيا، وعلمانيين. يتم ذلك في سياق معقد وبديع، متسارع ومقتضب، ينهل من الخلفية الاجتماعية لكل من تلك الشخصيات، ويوظفها في الإشكالية الأساسية: الدين. 
 

رواية الدويهي، خزان من الإشكاليات والانتقالات التي توحي بأن هناك مسرحا مفتوحا أمام البطل، إلا أننا ندرك أنه مسرح محكم، مؤطر جيدا، عاطفي، يُخضِع شخصيته الأولى لشروط كينونته الإنسانية البعيدة، في وقت لم يكن هناك متسع للاستقلالية. أول ما يلفت في هذا العمل الجذاب، مسألتان لا يمكن الفكاك منهما: الاولى هي البناء الأدبي، المنسوج على أساس مساحتين: عائلة مسلمة لها ثلاثة أولاد وبنت، وأخرى مسيحية لم يقدَّر لها إنجاب الأطفال. أما المسألة الثانية، فهي اللغة. عندما نتحدث عن اللغة هنا، فإن المفردة لا تحتمل أي التباس، أو تأويلات، بل نعني أن اللغة ( ضبط الجملة، الإقتضاب في تصوير التفصيل الواحد، كثرة التفاصيل المختلفة في وقت واحد، التزام اللغة المشهديات المتتالية التي تتحكم بدفق الزمن، وسرعته(، التي لم يتغير نسيجها طوال صفحات العمل، مثّلت أحد التوهجات الأساسية المرافقة للحدث الروائي، إذ استطاعت ألا تخضع لرتابة، وأن تبقى محافظة على تمايزها وبريقها واستقلاليتها حتى الرمق الأخير، في آخر مشاهد الرواية.
 
وعلى رغم حصر المؤلف هذه اللغة في المستوى الثاني من الضمائر بشكل عام، وعدم تطرقه إلى ضمير المتكلم، إلا أنه تجنّب وقوعها فريسة المشهد، أو إيصاله إلى مأزق كتابي، فبقيت معاندة، متألقة، سريعة، بصرية، سهلة ممتنعة، واثقة، وعاطفية أيضا، لتؤلف في هويتها الموحدة، خلفية فنية، ترافق وحدة البطل نظام، ووحشته عن أمكنته الكثيرة التي نهلت منها حياته. هذا التقارب، بين أسلوب للعمل، هو في طبيعته حكواتي، أو سردي، مشوّق، بصري، وبين مضمون مرتكز إلى حد كبير على سيرة ذاتية لشاب، يضفي جمالية، ويحيل القارئ على التفكر في ماهية الخلق، وروعته. 
يترك لنا الدويهي الفظاعة الكبرى الى النهاية، وهي التراجيديا المنفجرة في وجوهنا كقراء، إذا صح القول. ويجدر القول هنا إنه في موازاة إيلائه الاهتمام الأكبر للقصة، قياسا بالبناء الذي يحضر خاضعا لترتيب كرونولوجي، غير مجهد للقارئ عموما، ينقلب هذا كله في النهاية. ذلك أن الموت يبطئ من سرعة الزمن في المشاهد الأخيرة، ويبقي سرعة الفعل وحده، ما يعني أن الامتثال للقصة لن يغدو الاولوية على حساب البناء، ومن ثم المخيلة المفاجئة دوما.
 
أما النص الروائي، فيبقيه الكاتب مزينا بفظاعات ظرفية، مرحلية، كموت مرافق صديقه، او اعتقال صديقة سابقة، أو هرب فتاة أجنبية تعلق بها نظام على متن باخرة، او حتى توقيف البطل على أحد الحواجز الطيارّة، ووقوفه على حافة الموت. يناور الدويهي عبر هذه الفظاعات، كأنما يؤسس للتراجيديا المهيبة في الصفحات الأخيرة، التي لا تكف عن التكثف حتى الحرف الأخير. ما يبثه الدويهي المحترف إلى مخيلاتنا، يكاد يكون رذاذا لفجيعة يدّخرها ولا تتبدى مقدماتها في شكل مكتمل، ناضج، ومستقل، بل تتم تجزئتها انكسارات، أو حالات خسارة مؤسفة توضع في خانة الانكسارات. تتعلق بالمكان نفسه، غير الثابت، وإشكاليته، وواقع المعادلة اللبنانية التي تحكي انتماء المكان نفسه إلى ساكنيه، وليس العكس. بإمتلاك الدويهي لأشياء الرواية، كان سهلا عليه دخول الحدث “الجاهز”.  اختار مثلا أن تتقاطع حياة نظام مع زمنين: الحرب وما قبلها. كما اختار له مكان نشأة بعيدا عن العاصمة الإشكالية، وبيئتين – مسلمة ومسيحية – تؤسسان للاحداث المتلاحقة، وهما بيئتان لا توصفان بتزمتهما الديني، وإن أحيطتا بالتعصب سواء من الأقارب، أو أهل ضيعة حورا. نظام، يشكل بذلك، قناة دقيقة، حساسة ومتينة للعبور من بيئة الى أخرى، بعد تحميلها بالأسئلة التي لا تثقل بالإيديولوجيات. فهو عالق بين ديانتين، عائلتين، واتجاهين سياسيين أيضا أو إيديولوجيتين -منظمة العمل الشيوعي، خلية فرج الله الحلو، وجنان سالم حبيبته التي يعارض والداها الفدائيين واليسار.
 
لم يعتمد الدويهي على التنظير الإنساني، أو الفلسفي، أو السياسي، أو التاريخي، ولم يستعن بتفسيرات يخوض من خلالها في استعراض وجهة نظره في العمل، وهو بذلك حافظ على نقاء شخصية البطل، ونظافتها، وحياديتها، متماهياً مع حقيقة نشوء هذا البطل في الشمال، وتعرفه إلى بيروت قبيل مرحلة “حرب السنتين”، وخلالها. من جهة أخرى، يكون الدويهي قد وظّف ثقافته، بجرعات متفرقة، يضخها هنا وهناك، في بعد لا يخرج عن منطق سيرورة البطل. فثبات الشخصية وتغير الفضاء سمتان أساسيتان في “شريد المنازل”. وفيما تعد حَورا نقطة النهاية، والبدء، والتحولات المفصلية، مرجعا للعمل الأدبي وأحد مؤثرات تكوين شخصية البطل، وهي كمكان لإقامة ثابتة لتوما ورخيمة اللذين يعتنيان بنظام كإبن لهما، تبرز بيروت كمكان يسحق الفرد، ويجرفه بعيدا من أحلامه الدافئة. فنظام يشهد تغيرات شتى في حياته، وينقاد، غير عارف، وموقتا، إلى صفوف منظمة العمل الشيوعي لمساندة أصدقاء حبيبته، من دون أن يصير في الضرورة رفيقا ملتزما العقيدة.
قد يستدل من إسم الرواية أنها رواية الأمكنة، وهذا تفسير مطبوخ جيدا ومتداول ولا يقل ابتذالا عن أي قراءة للرواية من باب عنوانها فقط. وعلى رغم إشكالية الأمكنة، وتنوعها، وضبابيتها في حياة نظام، بل ودلالات كل منها، إلا أنها أمكنة يصار إلى تجريدها في نهاية العمل، وهي أمكنة يبلور وجودها المأزق العام للبطل ولا يبهت ضوؤها فهي تبقى خلال العمل عصية على السيطرة والإنطواء على رغم الحدود السياسية والدينية والمسافات التي تقام بينها. إلا أن نشاطها وحرارتها يؤديان بها جميعها إلى الإنصهار، لتتكثف في مكان واحد، مستجد، يطرأ على القصة، وهو مكان غير معلوم في نهاية العمل، ولغز يشبه خلاصة الحالة الفريدة في لبنان. “شريد المنازل” رواية لبنانية بامتياز، تستحق أن يؤجل المرء شؤون حياته تفرغاً لقراءتها. إنها رواية تستحق فعلا أن تقرأ، وبصوت عال. 
 
مازن معروف