Full Arabic review by Mona Fayyad for Al Nahar below.
“شريد المنازل” أو اللامنتمي اللبناني
استمتعت كثيراً بقراءة “شريد المنازل”(•)، كما هي العادة مع روايات جبور الدويهي. لأسباب عديدة ليس أقلها مثلاً أسلوبه الشفاف في وصف الطبيعة بما يذكرني بمتعة قراءة الروايات اليابانية: “يتأمل شجرة الجوز العنبيّة والشمس تخترقها فتجعل اوراقها الخضراء شفافة غارقة في غبار الضوء الدقيق الذي يمد حبلا طويلة من نور في ارجاء البستان”.
لكن تكفي أيضاً فكرة الرواية الممتازة التي جاءت في الوقت المناسب فعلاً؛ وكلامي هذا يتعدى الإطار الأدبي بالطبع ليستند الى الواقع السياسي والاجتماعي والمذهبي الذي وصلنا إليه. ربما تكون رواية الدويهي مستندة الى قصة حياة حقيقية وربما لا. لكن في كل الأحوال أجد أنها نجحت في معالجة الموضوع بواقعية تأتي في أوانها بالضبط في الوقت الذي برزت فيه التناقضات والعصبيات والحزازات والتنابذ والفرقة بين الاديان والمذاهب والعشائر والعائلات بحيث صارت لا تخجل من الكشف عن وجهها والإعلان عما كان يظل طي الكتمان وفي القلوب ويتم التهامس به بين الثقات فقط.
وفي الرواية الكثير من الاشارات اللطيفة لهذا الواقع وللحساسيات والحشرية المذهبية اذا أمكن القول، كأن تسأل المرأة بإلحاح عن اسم الشرطي القتيل في حادث سير أثناء انتقال “نظام” بطل الرواية الى بيروت لأول مرة، فيقول الرجل الجالس الى جواره أنها تكذب في شأن قريبها الشرطي، هي تريد معرفة دين الشرطي أهو مسلم أم مسيحي. وعندما يسأل نظام: هل هي مسلمة أم مسيحية، “يقول له أنظر إليها، تعرف”. ففي حقبة زمنية معينة أمكن أن يتم التفريق بين من ينتمي إلى الديانتين من الجيل الأكبر التقليدي من خلال لباسه، لكن في الفترة نفسها لم يكن ممكناً أيضاً التمييز بين يسرى الشيعية وجنان المسيحية لا من شكلهما ولا من سلوكهما ولا من لهجتهما. الأمر إذن متعلق بالطبقة وبالانتماء ريف / مدينة أيضاً وليس فقط بالدين والمذهب. وهذا لم يعد ممكناً
الآن إلا من خلال التمييز الواضح بين المعلنات عن انتمائهن الديني والأخريات. ونعلم أن معرفة مذهب أو دين الآخرين تظل هاجساً دائما لدى اللبنانيين لكي يضبطوا ويراقبوا سلوكهم بحسبه. وذلك بسبب التعدد الحقيقي من ناحية ولإشكالية الانتماء الطائفي الذي يمرّ بأسوأ لحظاته وأكثرها تعصباً في تحوله الى انتماء ميكانيكي يصعب حلحلته. فلقد صارت الإشارة إلى العصبيات والانتماءات المذهبية والدينية بمنتهى الفجاجة الآن، وربما هذا أفضل على كل حال. إذ لا يمكن معالجة الداء ما لم يعلن عن نفسه بمثل هذه الوقاحة . أعادتني الرواية إلى أجواء الحرب. في لبنان سبق أن طرح تساؤل عن السبب في أن الروايات لم تعالج الحرب بما يكفي. بداية يمكن التساؤل هل انتهت حربنا الأهلية؟ لكن وبغض النظر عن الاجابة يبدو أنه يلزم بعض الوقت لكي يصبح بالإمكان الكتابة عنها، إذ يلزم بعض المسافة لكي تصبح الرؤية بوضوح ممكنة. فأوروبا لا تزال حتى الآن تعالج آثار حروبها وخاصة الأخيرة منها، ولا نزال نقرأ في كل يوم عن روايات جديدة وأفلام وأشكال تعبيرية منوعة لتقول عن الحرب العالمية الثانية التي لم تنته تداعيتها حتى الآن. من الناحية الفنية استطاع المؤلف ان يخلق جواً واقعياً عبر وصفه للأشخاص وللأمكنة بحيث يمكن أن نبني عالماً كاملاً منها.
تخيلت في رأسي مجرى الأحداث كما لو أنني كنت أشاهد فيلماً. والرواية ممتازة لعمل فيلم على كل حال. فتخيلت بيت الميناء في طرابلس والبستان في حورا ، ورحت في كل مرة يصف فيها البيت بعد أن وصف الباب المغلق للبستان أقول هل يمكن رخيمة أن تشاهد الطريق من نافذتها لكي تتأكد من التابوت الذي تحمله سيارة الاسعاف؟ ففي خيالي أن البيت داخل سور البستان وانها لا تستطيع رؤية تابوت نظام من المكان الذي هي فيه. الأمر نفسه حصل مع شقة رأس بيروت، كلما وصف جبور الأمكنة التي تطل عليها الشقة، فيقول تارة أنها تطل على الصيفي والمرفأ وترى السفن. وتارة أخرى تكون مطلة على المنارة والجامعة الاميركية والمرفأ والفنادق والأسواق. نعود إلى بطلنا الشريد، الذي انجذب باكراً وهو في سن الطفولة لبستان جيرانه السحري الذي يذكر بعجائب بلاد أليس الشهيرة. انجذب بسبب المتعة التي كانت تتوافر له في حياة البستان اليومية، ولكن لسبب أعمق جعله يوجد لنفسه والِدَين رديفين وخاصة أما بديلة وفرتها جهوزية رخيمة الطبيعية لكي تكون أماً هي التي حرمت هذه النعمة. فأم نظام تهتم بنفسها كثيراً فلا تظهر على أحد إلا وهي في أفضل حال، مرتّبة دائما لا يمكنه العبث بها، لا يقترب منها إلا وتقف على دفاعاتها: أبعد يديك! لا يلامسها إلا ويخرّب فيها شيئاً، شعرها، أظافرها، طلاء وجنتيها، طيات ثوبها التي ثبتتها طويلا بالمكواة. رخيمة مباحة، مستسلمة، يفعل بها ما يشاء، يخرّب ما يشاء، يجلس في حضنها ساعة بكاملها، يرسم على وجهها ويديها، يفتّل لها شعرها خصلاً ويمسح فمه المليء بالتوت بمريولها. بحيث أن ميسلون الأخت بحدسها المرهف وتعلقها به سوف تتنبأ باكراً “سيأخذون نظام”… لكن جوهر الرواية يتمثل في دراما البطل الذي يذكرنا بقصة حي بن يقظان الفلسفية التي ترمز لعلاقة الانسان بالكون والدين عبر استقراء الحدس والعقل وليس التلقين؛ عبر حكمة الفطرة وليس جمود الترويض. إن مسار حياة البطل جعله يجد نفسه متعدد الانتماء الديني عن التعصب بسبب ظروف نشأته ووضعه الخاص وليس عن تفلسف مسبق أو تسييس.
وُلِدَ لأسرة مسلمة وانجذب من قبل أسرة مسيحية وجدت فيه صورة الطفل المثالي؛ بجماله اللافت وطبيعته الكريمة. وهذا ما يجعل منه بطلاً درامياً بامتياز بوضعيته الاستثنائية التي تلخص وضعية المواطنين اللبنانيين المدنيين، إذا أمكن القول، الذين يجدون أنفسهم في ورطة مشابهة عندما يرفضون الواقع المذهبي والانتماءات الميكانيكية والصراع الطائفي ويعلنون أن أولوية ولائهم للوطن ولجنسية الدولة التي ينتمون إليها.
وقد لخص المؤلف ذاته إشكالية الشخصية الأساسية:”عندما أخبرهم نظام عن عائلتيه ودينه وانتمائه: مطّوا شفاههم محتارين به وأمضوا السهرة بطولها يتداولون بسيرته ومعانيها. صار لعبتهم لأيام، أخبروا قصته لأصحاب لهم، فاعتبره البعض ثمرة النظام الطائفي والبعض الآخر نموذجاً لما يمكن ان يكون عليه المواطن اللبناني في مرحلة أولى تقوم على تجاوز الاديان والعصبيات من دون انكار وجودها، في الطريق الى بناء المجتمع العلماني القائم على المواطنية الصرفة.
إن العلاقة التي نشأت بين نظام وتوما ورخيمة هي علاقة خاصة حميمة بين أفراد اختاروا الانتماء إلى بعضهم البعض لأسباب خاصة. لكن أي انتماء خاص في لبنان لا يمكنه إلا أن يكون عاماً ، إذ عليه أن يدخل في حيّز أو إطار وُضع له سلفاً، فهو ليس حراً في اختيار انتمائه؛ إنه يولد ويجب أن يموت معه. وهكذا بدأت الأقاويل حوله وبدأ القلق على مصير ممتلكات توما الذي لا أبناء له وبدأ أهالي حورا يتداولون كيف أن المسلمين اشتروا في السنتين الماضيتين بيوتا في حورا وراح قريب له يذكرها ويستكثر عددها ولو انه لم يتجاوز في عدّها على أصابع يده الثلاثة أسماء، مضيفا بلا مقدمات بأنهم لن يكتفوا بذلك بل إنهم سيرثون الأراضي…”.
ويصف المؤلف شخصية نظام وعلاقته بالآخرين وكيف أنه في مراهقته زاد انفاقه على رفاقه من دون منّة، يحاسب تلقائيا في المطاعم فلا يتكلف أحد حتى مشقة الادعاء بأنه يرغب في الدفع من ماله. وكان اذا فرغت جيوبه يستدين ولا يقبل ان يساهم أي من أترابه في النفقات، وأصحاب الدكاكين والمقاهي يرفضون بدورهم المال من أحد غيره، ومنهم من يضاعف المبلغ المستحق على نظام يوم يأتي توما لتسديده، وإذا عاتبت الدكنجي زوجته سراً، أفهمها بأن أهل البلدة أحق بأموال توما من هذا العجّي.
يظهر أهل القرية نوعاً من التحامل البديهي في بلادنا تجاه “الدخيل” ويبحثون عن السلوك السيء للشاب في مطلع شبابه ويبالغون في وصف حياته في بيروت:”يرمي المال من النافذة، يدخّن الحشيشة، يقامر في كل شيء، في البلياردو وسباق الخيل، يسكن أجمل شقة في بيروت، يعشق ممثلة سينمائية صديقة جايمس كوبرن، ينفق عليها وعلى غيرها من دون حساب، يرغم توما على بيع الاراضي لتلبية حاجاته، توما الذي أمضى حياته يشتري، يشتري الأراضي…” وخاصة انه مريض السكري.
منذ وصول نظام للعيش في منزل توما وتسجيله في مدرسة للراهبات وجدت المديرة الأخت فرنسيسكا في نظام ضالتها لتجعل منه حالة نموذجية لتلميذ مسلم يتحول الى المسيحية من تلقاء نفسه؛ وهذا من الآثار الجانبية للنظام الطائفي. لكنه يقاوم بشكل عفوي، كان قد استوعب الحس بالانتماء الى أسرته ولم يرغب في القيام بما قد يفهم منه “خيانة” ما. ولكنه في النهاية ولأسباب عاطفية وعملية رغب بالقيام بما يرضي رخيمة أيضاً لأنها وضعته أمام معادلة إما بيروت وإما العمادة. وهذا ما فعله: “…دسّ نظام ورقة العمادة في جيب سترته الداخلية خوفا عليها من البلل وحملها مباشرة الى حورا ليضعها على الطاولة أمام توما ورخيمة، يطلب منهما ان لا يذيعا الخبر فهو لا يخاف من أمه وأبيه بل عماته نجيحة وزين الدار، ويعلن في الوقت نفسه انه ذاهب في الغد الى بيروت وبوسائله الخاصة. بدا كأنه يبرّئ ذمته قبل ان يحصل على حريته”. في الحقيقة عندما قرأت هذه الفقرة وقبل أن أكمل الرواية كتبت على هامش الصفحة “سوف يموت”.
ذلك أن عدم الانتماء أوالتعصب الى دين أو مذهب غير مقبول في لبنان ويزيد هشاشة صاحبه لأنه يخلّ بالتوازن الطبيعي الكوني المصنّع خصيصاً للبنان (مثلما أن اكتشاف غاليله لدوران الارض حول الشمس أخلّ به). ففي لبنان انتماؤك يختارك ويلزمك لا أنت؛ عليك أن تنتمي شئت ذلك أم أبيت لطائفة ما وممنوع أن تتراجع أو تمحو ذلك عن سجلّك وإلا سيختلّ وجودك المدني ومصالحك … والاخلال بتلك الشروط يجعل منك لقمة سائغة للعنف على أنواعه وتصبح معلقا بين مكانين او لامنتمياً.
وهذا ليس حرية، عبّر نظام عنه بوضوح: لست حراً. حريته كانت حرية ملغومة ومنقوصة والبراءة والطيبة ممنوعتان.
منى فياض