Full Arabic review by May Bassil, for Al Nahar, below.
“شريد المنازل”… والطوائف… والمقابر
يحرك جبور الدويهي في روايته “شريد المنازل” الصادرة عن “دار النهار للنشر” مواجع الناس الذين شهدوا الحرب باستذكار الكثير من بدايتها، ولكن المغزى ان من لا ينتمي انتماء خالصا الى طائفة لبنانية يبقى شريدا طوال حياته، قصرت أم طالت. ولا يمكننا ان نتخيل ما كان سيصير عليه “نظام” البطل لو عاش أكثر مما عاش.
”شريد المنازل” هو شريد الطوائف إذاً. ربي بين دينين ولم يعلق بأي منهما. بقي على حدود الدين، كان منشغلا بدنياه، كمثل كثر من الشباب، ولكن “عدم تلقينه” التعصب لأي منهما جنّبه التفرقة والنبذ في نظرته الى الديانات.
نظام جمع بين دينين، كما يجمع البلد واختنق مثله بالدماء التي سالت حقدا، اختنق بالكره.
رواية أحداثها مرصوفة مثل بلاطات الطريق، ليسير عليها القارئ الهوينا، منذ ما قبل الحرب حتى اندلاعها، وتحول البلد الى أتون من نار. حين انقلبت العقائد على أصحابها بعدما أصابت بعماها الابرياء ولملمت أوباش الشوارع مطية لمقاصدها، فاذا بهم يستغلونها لتغيير حياتهم التعسة وفقرهم، بالكره والاغتصاب والقتل والسرقة. واذا بالثورة هي هذا كله.
طبعا الناس التي عاشت الحرب تعرف هذه الامور كلها، ولكن جبور الدويهي يصور المناخ العام الذي يقسم البلد على أساس الدين ويجعل التقاء الناس أشبه بالاكذوبة او بالغش، مثل أصحاب يسرى عشيقة نظام الذين تحدر معظمهم من عائلات ثرية ولكن كانوا يعيشون عالة على رخيمة وتوما أهل نظام العلمي “بالتبني”. وكانوا ينظّرون بدل ان يعملوا على تحصيل قوت يومهم ما داموا يرفضون مال أهلهم او يزعمون ذلك، ولكن كلهم كانوا يدرسون في الجامعات الخاصة، بمال أهاليهم. “يسار الكافيار” هذا كان الزبد الذي طفا على وجه موج عات، قوامه ناس تلقفت الحرب لمقاصدها. وأهل التنظير هؤلاء صدم كل منهم صدمته الخاصة به.
يصعب تصور نظام في أيام السلم غير شاب جميل ربي بين مكانين: طرابلس وحورا، وعائلتين: مسلمة ومسيحية، يتمتع بسحر خاص ولا بد ان يتحول صائد نساء في عيش من الرخاء. فنظام لا يتميز بذكاء حاد، بل بطيبة ولا آلمته، كما يبدو الاشواق الى أهله الاصيلين كما لم تؤلمه الى من ربياه. نظام العلمي صبي كان مأخوذا بنفسه وأخذ الناس به، كان لا بد ان يصير دون جواناً بمعنى من المعاني، وما مقتله فيما يوحي انه الم الحب، الا صورة عن الفراغ الذي احسه خلال الحرب من لا يتعصبون لديانة. نظام صار شريد الطوائف، كما قلنا بعدما كان شريد المنازل متنقلا بين بيت اهله وبيت توما ورخيمة. لم يعد في استطاعته ان يعيش في اي منطقة منسوبة الى دين معين ويحكمها بعض من اهله. والصدفة التي جعلت خانة الدين فارغة في هويته، هي صدفة اشبه بصدفة احتمال وجود امثال “نظام” في نظام طائفي. ولاحظوا اسمه “نظام”. وهم على قلتهم منبوذون لا يستطيعون العيش في اي مكان. فان بقوا في منطقة اغلبيتها من غير دينهم نظر اليهم على انهم جواسيس للطرف الآخر، وان انتقلوا الى منطقة اغلبيتها من دينهم، عليهم اثبات قوة عصبيتهم له، هكذا تحول نظام من شريد المنازل الى شريد المقابر. اين يدفن؟
هذه الهوية الطائفية التي تطبع كل لبناني وتترك دمغتها عليه منذ الصغر تطغى على كل انتماء آخر كما اوحى المؤلف، وهذا النشوء على هوية دينية ادى الى القتل على الهوية، كما نلاحظ. وعندما تتقدم العصبية الدينية على الايمان او لنقل على المحبة المجردة من اي غاية قد تفرق بين الأخ واخيه. فكيف ان كان الدين جزءا من تركيبة سياسية؟
تبقى شخصية جنان المعذبة بمرضها العصبي والنفسي، الرسامة الرقيقة الحس، التي تبدو مثل عرافات القصص تتنبأ رسومها بأنهار الدم فتضع الاحمر ويضيء في لوحتها. كأن جنان استشفت بقلقها العصبي الجنون الذي سيطيح اي جنون مرضي جنون الحرب، والاطماع وتمزيق البلد اشلاء، وصعوبة ان تحيا الرقة في صخب العنف هذا.
مي باسيل