June 15th, 2012
Since the novel “Autumn equinox” was published in 1995, readers discover and appreciate Jabbour Douaihy’s talent. The succession of his novels and his characters confirms that he is a great Arabic writer and an exceptional witness to the socio-cultural reality in Lebanon starting the middle of the twentieth century. Along the pages Jabbour’s story telling satisfies the art of novel. His writing style reminds one of the old days’ hakawatis… The most that can be said about his main character, men and women, is that they are ordinary people that the author’s lens accompanies in the sequence of events taking place in Lebanon from the mid-twentieth century to the present day.
Jabbour Douaihy’s novels remain, for the non Lebanese readers, works of pure fiction; minute jewelry made by the imagination of a man of talent ranging between modesty and compassion, the most refined sarcasm and bitterness the most painful and understandable. Douaihy tells the story of his Lebanon, and does not submit her to judgments, nor to philosophy or psychoanalysis. The reader rooms around, or rather, he roams jubilant in Douaihy’s imaginary multi-facetted world, with all its contradictions and conflicts, which, as a mosaic, does not reveal its beauty unless it is viewed from a distance. This is the meaning of the virtual camera Douaihy’s look…
The Lebanese reader, on the other hand, has a different relation to Douaihy’s novels, especially if he is over fifty-five. He discovers in this imagined world decors familiar to him or to those around him, he hears dialogues that does not surprise him and are not foreign to him… For this reader, Douaihy’s novels are a time travelling machine…
But Jabbour Douaihy cannot be reduced to this only. He is also an accurate observer of society, and a sensitive one…
Is it possible to go beyond what is written in the text? There is certainly a basic idea common to all of Jabbour Douaihy’s novels. A permanent tension, a divergence that cannot be overcome. It remains in latency, but suddenly it wakes in the event of an accident…
Jabbour Douaihy’s novels feature a thousand stories about Lebanon, its various places, towns, families and personalities. A complete world in which interacts laughter, tears, love and war. In each line of his book, can be perceived the author’s simplicity and modesty.
Original Arabic version below.
:: :: :: :: :: ::
جبور الدويهي وصندوق الفرجة
انطوان قربان
منذ صدور روايته “اعتدال الخريف” في العام 1995 والقرّاء يكتشفون ويقدّرون موهبة جبور الدويهي الذي يؤكّد مع توالي رواياته وشخصياته أنه كاتب كبير باللغة العربية وشاهد استثنائي على الواقع الاجتماعي – الثقافي في لبنان ما بعد منتصف القرن العشرين. فعلى مدى الصفحات يروي جبّور إرضاءً لفنّ الرواية، فحركة الكتابة عنده تذكّر بأسلوب سرد الحكواتي أيامَ زمان. هو يراقب ويروي متحاشياً إظهار نفسه ولا حتى أن يلعب دور عالم الإناسة أو عالم الاجتماع أو المنظّر الأخلاقي أو الفلسفي. وهو من اللباقة بمكان لدرجة أنّه، كملمّ بخفايا النفس البشرية يسبرها بنظرته الثاقبة، يضع هذه النفس في موقف معيَّن من دون أن يموضعها وفق اعتبارات يمكن أن ننسبها إلى تلك المدارس الفكرية المسمّاة “العلوم الإنسانية”. وأكثر ما يمكن قوله في أبطاله، رجالاً ونساءً، أنّهم من الناس العاديين ترافقهم عدسة النظر عنده في تسلسل أحداث تتفاعل في إطار لبنان منذ منتصف القرن العشرين وحتى يومنا هذا. وهو ما يضفي تلك الواقعية المكينة على شخصيّات رواياته، لدرجة أننا نحسّ أحياناً أننا نكتشف جوانب واسعة من تاريخ المجتمع اللبناني الحديث.
وتبقى روايات جبور الدويهي، للقارئ غير اللبناني، أعمالاً من صنع الخيال المحض، مجوهرات صغيرة من صنع مخيِّلة رجل تتراوح موهبته باستمرار ما بين الحنو الأكثر حياءً والتهكّم الأكثر تهذيباً والمرارة الأكثر ايلاماً والأفضل استيعاباً. يروي الدويهي لبنانه ولا يخضعه للمحاكمة ولا للفلسفة ولا للمعالجة النفسية. ويتجوّل القارئ أو بالأحرى يطوِف مبتهجاً وسط موطن جبور الخياليّ ذي الأوجه المتعدّدة بكلّ تناقضاتها وصراعاتها وتوافقاتها وخصوماتها التي تمنح لبنان الذي يكتشفه فتنته الرائعة عبر فسيسفاء لا تنمّ عن جماله وبهائه إلا إذا تأمّلناها مِن بُعد. وهذا ما معناه الكاميرا المفترضة في نظرة جبور. فهي تبقى بعيدة ما يكفي، حتى عندما يدفعها الكاتب، بعين المخرج، في حركة مقتضبة من العدسات، إلى سبر العالم الحميم للشخصيات التي يصوِّرها في المشهد.
أما القارئ اللبناني في يومنا هذا فتختلف علاقته بروايات جبّور، خصوصاً إذا كان في الخامسة والخمسين من العمر وما فوق. فهو يكتشف في هذا العالم المتخيَّل ديكورات مألوفة لديه أو سمع بها مِمَّن حوله، كما تُفاجئه حوارات ليست معانيها غريبة عن أذنيه، ويتبيّن تفاصيل صغيرة قد تكون من النوافل ولا تلفت انتباه القارئ الأجنبي، لكنها تتحدّث عن مواقع وأماكن يعرفها، وعن مطارح وحلقات اجتماعية ينتمي إليها، وعن أحداث تحرّك فيه الذكريات. وبالنسبة إلى هذا القارئ تُعتبر آلة للعودة بالزمن عبر الحلم الذي يوقظه هذا الروائي فيه. فمن روايته الأولى “اعتدال الخريف” إلى “شريد المنازل” مروراً بـ”ريّا النهر” أو”عين ورده” أو “مطر حزيران” ناهيك عن كتاب “الموت بين الأهل نعاس” وهو مجموعة قصص قصيرة، يبرهن جبّور الدويهي عن موهبته كراوٍ متجوّل على غرار أولئك الذين كانوا من زمان يتنقّلون بصندوق الفرجة في شوارع مدن الشرق. كان هؤلاء يركّزون صندوقهم والمعقد الخشبيّ الصغير ويدعون سكان الحيّ إلى العرض. يحضر الأولاد الذين كان بإمكان أربعة منهم الجلوس على المقعد الصغير، وتلتصق وجوههم بالكوّة الصغيرة يشاهدون عبرها الصور المتلاحقة في أعماق الصندوق. فيما الراوي المتجوّل يتولّى بيده إدارة زند الأسطوانات ويلعب دوره مكان الشريط الصوتي بكلامٍ منمَّق يجعل الأولاد يسرحون وراء مخيلتهم ويحلمون بهؤلاء الأبطال وبشقاوتهم وتعاستهم.
لكن لا يمكن اختزال جبور بهذا فقط، بل هو أيضاً مراقب دقيق للمجتمع، وحسّاس بشكل أساسيّ إزاء ما يمكن تسميته تناسق العيش المشترك وإزاء التمزّق الناتج عن انعدامه لدى شخصياته الروائيّة. ويمكن تلمُّس هذه السمة تدريجيّاً وبالتسلسل الزمني بدءاً من روايته “عين ورده” التي تحكي انهيار التناسق في بيتٍ قديم في جبل لبنان حيث يقطن، في الطابق العلوي، صغير آل باز، من عائلات الوجهاء، في وقت أقامت في القبو أسرة متواضعة ذات أصول بدوية من آل المانع. وقد شكّل وصول إحدى نسيباتهم البعيدات لزيارتهم عاملاً مباشراً في كسر التناسق المنزلي. وهنا شكّل الموقع الاجتماعي المؤشِّر المحدّد للهوية داخل المنزل المسكن المشترك.
التمزق اللبناني
في “مطر حزيران” يتوسَّع الإطار العائليّ ليصبح إطار البلدة التي ينتمي إليها الروائي، وهي بلدة زغرتا، النموذج شبه التام للتشبّث بالمكان كتعبير عن الهوية العشائرية. وهذه الرواية، المهداة إلى سمير قصير، يمكن اعتبارها منعطفاً في حياة الكاتب الأدبيّة. وهي بشكلٍ ما الرواية الأولى من سلسلة سينكبّ الدويهي فيها على وصف حالة التمزّق اللبنانية التكوينية كلّياً تقريباً. وهو يقوم بذلك ليس كعالم سياسة أو كعالم اجتماع، بل لأنّ هذا التمزّق كامن فيه هو نفسه. وبالطبع هو من اللباقة والحياء بمكانٍ لا يسمح له بالإغراق في مراثٍ لكن يبقى من الصعب عليه أن يخفي المرارة التي تنفضح عبر ما يكتب في التهكّم الاستهزائيّ في أغلب الأحيان، وفي الفكاهة السوداء (المضحك المبكي) أو بكلّ بساطة في ما يبذل من جهد لإظهار لامبالاته إزاء الوضع الذي يرويه. فرواية “مطر حزيران” تقوم بإبراز وإخراج ما هو عليه الشقاق اللبناني المتأبّد. ففي البلدة نفسها، كلّ السكان هم من الطائفة نفسها لكنهم يتبعون عشائر انتمائيّة متناحرة، حيث الانتماء هو فقط داخل العشائر وليس عابراً لها. وهذا ما يجعل مبدأ الثأر قانوناً حياتياً كلّياً تقريباً. وهذا الوضع هو الذي أدّى إلى مجزرة 16 حزيران العام 1957 في كنيسة مزيارة في أثناء القيام بصلاة جناز. وهذه المجزرة، والحرب العائلية التي أعقبتها هي موضوع الرواية وسبقت الحرب الأهلية القصيرة التي وقعت في صيف العام 1958 ثمّ خصوصاً الحرب الطويلة والمدمرة ما بين العامين 1975 و1990 التي كانت في آنٍ معاً حرباً بين الأديان ثمّ بين المذاهب، ثم بين أبناء المذهب الواحد وبين العشائر. وهذا الصراع الطويل هو الذي ساعد جبور الدويهي في إقامة حبكة روايته الأخيرة الممَيَّزة “شريد المنازل” التي ما نزال ننتظر بفارغ الصبر صدور ترجمتها الفرنسية.
في هذه الرواية أيضاً يرتقي الدويهي ويتراجع أكثر لتتّسع زاوية النظر، فلم تعد البلدة وحدها، بل الوطن بأكمله، بتشكيلاته المتنوّعة، صار يشكّل إطاراً لتشرّد البطل نظام الدائم، وهو المتشرّد الساعي إلى منزلٍ – هوية لا يعثر عليه في هذا اللبنان الغارق في صخب الخلافات. ونظام المولود في أسرة مسلمة في طرابلس يحظى بعطف عائلة مسيحية في الجبل. وستفضي به الظروف المادية إلى العيش مع هذه العائلة التي تبنته والتي ستنفق عليه من دون حساب. وإذ تحقّق الاندماج طلب أن يتلقّى سرّ العماد. وبعد أن أنجز دراساته الثانوية انتقل إلى بيروت في فترة اندلاع الحرب الأهلية. وفي ما بقي من الرواية هو كناية سيناريو حالة التشرّد التي عاشها مئات الآلاف من اللبنانيين. وسرعان ما تحوّل إطار الرواية إلى لوحة اجتماعية مهيبة. وبالطبع أنّ الدويهي لا يؤلّف كتاباً تاريخياً لكنه يصوغ، من مختلف القطع، حكاية مركبة انطلاقاً من العديد من صور تمزّق بيروت ولبنان طوال سنوات الحرب الطويلة. فهل يمكن القول إنها رواية تشاؤمية؟ كلا، ليس تماماً لأنّ هناك نقطة ضوء في نهاية النفق، كناية عن الأمل المتجسّد في لطافة شقيقة نظام، ميسلون، وشجاعتها وطيبتها، هي التي لا بدّ تذكّر بأنتيغون، الشخصية المتألقة عند سوفوكل، التي لا تخاف انتهاك قوانين المدينة من أجل إنقاذ شرف جثمان أخيها بولينيس. وما مشهد مسيرة نظام الجنائزية سوى قطعة معبّرة عن مفهوم البسالة عند الدويهي.
صندوق الفرجة
وهل يمكن الذهاب أبعد مما هو مكتوب في النصّ؟ هل تجب محاولة اكتشاف الأحكام المسبقة في النصّ؟ هناك بالتأكيد فكرة أساسيّة مشتركة بين كلّ مرويات صندوق الفرجة عند جبور الدويهي. وهذه الفكرة الأساسية هي حالة من التوتّر الدائم، من الاختلاف القائم دائماً، فِتنة لا يمكن التغلّب عليها. وهي تبقى في حالة كمون لكنها تستيقظ فجأة عند وقوع أي حادث مربِك. فمن بيت الباز الكبير، إلى لبنان الحرب الأهلية، مروراً بزغرتا الصراعات العائلية، نجد دائماً الجدلية نفسها المدينة/الريف. وما الغريب في ذلك ما دامت هذه الحالة النزاعية بين سكان المدن والبدو الرحل في المحيط هي من المعطيات القائمة باستمرار في المشرق. وهذه العلاقة نفسها بين المدينة والريف التقطها وحلّلها ميشال سورا في كتابه “الحالة الهمجيّة””. وهذه العلاقة نفسها المدينة /الريف هي التي سماها بوغدان باغدوفيتش المهندس وحاكم مدينة بلغراد سابقاً في زمن الحروب التي عصفت بيوغوسلافيا في تسعينيات القرن الماضي، سمّاها “الاغتيال الطقسي للمدن”، وليس ذلك بالمعنى المديني بل بالمعنى المجازي.
ومفهوم “اغتيال المدن” إذا ما أخذناه بهذا المعنى، صار يعني طقس القتل في الحيّز المديني كهدف انتمائي وليس كهدفٍ استراتيجي. ويجري كلّ شيء “وكأنّ المدينة كانت هي العدو لأنها تساعد في تحقيق التعايش بين الشعوب المختلفة وتشجّع النزعة الكوزموبوليتية”. فالحيّز المديني عند الدويهي هو بيت آل الباز وبلدة زغرتا ومدينة بيروت وحتى لبنان بأكمله. ومجال تشرّد نظام هو هذا المكان الذي يلتقي فيه كلّ الخاضعين لنظرة الغيريّة. ونظام هو مسلم بين المسلمين، ومسيحي بين المسيحيين، ويساري بين اليساريين، وكتائبي بين الكتائبيين. يحمل نظام كلّ هذه الهويات من دون أن يتشبّث بأيّ منها. وبهذا يتبيّن أنه الصورة المجازية لكن المأساوية لعبقرية المدينة (طبيعة تركيبها)، وتطوافه الدائم ليس حالة عدم استقرار بل هو يشير إلى تلك الهشاشة الأليمة في الفضاء المديني الذي هو بطبيعته في حالة حراك لأنه بطبيعته أيضاً مجال الحياة معاً ومكان التلاقي التعدّدي. كما أن بيروت هي أيضاً، على غرا ر نظام، مدينة مسلمة بقدر ما هي مسيحية. فخارج بيروت هو المكان الذي يصبح فيه الإنسان إما مسيحيّاً وإما مسلماً، مثل العائلتين اللتين عاش فيهما نظام، الطبيعية والمتبنِّية. وإذا ما حاولنا تجاوز الانقاسامات الاتنية – الدينية من أجل فهم حالة التخاصم اللبنانية يسهل علينا عندها أن ندرك أنّ “اغتيال المدن” يبرهن أنّ الحروب هي في الغالب وليدة المواجهة بين أبناء المدينة وأبناء الريف، ما بين نمطين متناقضين من الإقامة، نمطين لا يتوصّلان إلى التفاهم فيما بينهما”.
من صندوق فرجة جبور الدويهي يمكن أن تظهر ألف حكاية وحكاية عن لبنان ومطارحه وأماكنه وبلداته وعائلاته وشخصياته. عالم متكامل يتفاعل فيه الضحك والبكاء والحب والتقاتل. وتتراءى بساطة المؤلف وتواضعه في كلّ سطرٍ من سطوره. إنما يسعى جبور الدويهي إلى إتحافنا ويمتعنا فيما هو يدير أسطوانات صندوقه على مزاجه وإلهامه. وفي النهاية لم يكن هوميروس سوى شاعر منشد وراوٍ متجوّل ترك لنا الإلياذة والأوذيسة. وعلى الأرجح أن حرب طروادة لم تقع تاريخيّاً إلا أنها تركت لنا أثراً لا يُمحى من الحقيقة.