Press
December 12, 2010
“A novel like a shot from a pistol” – Al Watan reviews Douaihy’s latest novel

“A novel like a shot from a pistol” – Al Watan reviews Douaihy’s latest novel

A novel like a shot from a pistol. Read this novel’s first page, and the passion will lead you to inevitably read on, full speed, your eyes driven on the lines in pursuit of the events. Even after reading the last line in the novel, you remain taken by it…There is no doubt that it will stabilize in the head will never get out of it.

A review published by Al Watan, Beirut, Lebanon, by Wajdi al Ahdal, Yemeni novelist.

تقييم المقال
نجاح تام في التقنية وترويض للشخصيات على هوى المؤلف

أفق وجدي الأهدل

رواية كأنها طلقة من مسدس. إذا قرأنا أول صفحة فإن الشغف سيقودنا إلى إكمالها لا محالة بأقصى سرعة، عيوننا سوف تجري على السطور لملاحقة الأحداث ومعرفة النهاية، وسوف نظل بعد قراءة السطر الأخير في الرواية مشغولين بها تماماً ونفكر في ناسها وعوالمها، ونعاني من آلام في صدورنا على مصير بطل الرواية «نظام» ودمعة حزن تغبّش بصرنا وتدعونا لوقفة تأمل. لا ريب أنها ستستقر في الرأس ولن تخرج منه أبدا.

تحكي رواية «شريد المنازل» (1) عن طفل يتحدر من عائلة مسلمة «نظام»، أسلمته ظروف عائلته المضطربة إلى أن ينشأ في كنف عائلة أخرى مسيحية.

»محمود العلمي» والد «نظام» كان يعمل في مكتب للسفريات بمدينة طرابلس، ويقضي الصيف مع عائلته في مصيف جبلي «حورا». يستأجر بيتاً مفروشاً تملكه عائلة مسيحية مكونة من زوجين لم يُرزقا ذرية، وكان ابنه «نظام» يقضي معظم ساعات يومه في بستان الزوجين المسيحيين، ويتناول أحياناً وجباته في منزلهما.

لقد أحباه، ووجدهما «نظام» أكثر رقة وحناناً عليه من أبويه. تعتاد أسرته على غيابه، بل وتسمح له بالبقاء مؤقتاً عند مالكي البيت حتى عند رحيلها إلى طرابلس. تسوء أحوال «محمود العلمي» وتتراكم عليه الديون، وتصدر بحقه أحكام قضائية بالسجن، فيضطر إلى مغادرة لبنان، وبدء حياة جديدة في سوريا. عائلته تعاني من الفاقة عقب إغلاق مكتب السفريات، فيُترك الطفل «نظام» في قرية حورا الجبلية، يرعاه «توما أبو شاهين» وزوجته «رخيمة». وبعد فترة تغادر عائلة محمود العلمي إلى سوريا وتنقطع أخبارها. يكبُر «نظام» ويشبُّ في قرية حورا، في جو من الرخاء والدعة والتفاني في تربيته من قبل والديه بالتبني. يسعى الفتى إلى الالتحاق بالجامعة في بيروت، يرضخان «توما» و»رخيمة» لرغبته ويسمحان له بالسفر. وهناك يُبدد أوقاته وأمواله على حلقة من الأصدقاء والصديقات ينتمون لخلية شيوعية.. تندلع الحرب الأهلية اللبنانية، ويلقى «نظام» حتفه على يد واحد من الفصائل المتحاربة ظنته مسيحياً.

تمور الرواية بالكثير من الشخصيات الرائعة التي أبدع الروائي في تصويرها الروائي اللبناني جبور الدويهي، ونفخ فيها روح الحياة باقتدار، وجعلنا نكاد نلمسها بأناملنا، ونحس أننا نعرفها كما نعرف أصحاباً نلتقيهم في حياتنا اليومية. إنه روائي متمرس، يبني ويطور شخصياته وينسج شبكة علاقاتها بمهارة، ويضع لكل شخصية بصمتها الخاصة التي تثري حضورها وتظهر تفردها وتمايزها عن غيرها.

التميز اللافت لـ»جبور الدويهي» في رسم الشخصيات، وقدرته اللامحدودة على تزويد كل شخصية بالتفاصيل الداخلية والخارجية لهو أمر يدل على أصالته كروائي وسعة خياله، وأيضاً دقة ملاحظته.

إنما وسط هذه المنمنمات الاحترافية في خلق وتكوين الشخصيات، سوف نلاحظ بصورة عامة أن مجمل شخصيات الرواية تستجيب للقبضة الفولاذية للمؤلف وتحكمه الصارم بالزوايا التي نراها منها. يحرص المؤلف على أن نكوّن فكرة محددة وواضحة جداً عن شخصيات روايته، وهذا أمر إيجابي، لبعض الوقت، ولكن ليس كل الوقت. الغموض مطلوب أحياناً.. على سبيل المثال فإن شخصية «نظام» تبدو طيبة مُسالمة وادعة، وتخلو تقريباً من الخصال الشريرة. «نظام» ليس شخصاً مؤذياً، ولا يحمل في قلبه ضغينة لأحد، متسامح ويحب الناس دون أن يقيم اعتباراً يُذكر لتوجهاتهم الفكرية أو أصولهم الطائفية. لقد بدا وكأن المؤلف قد قام بتشذيب سيرة حياة «نظام» واختار منها جانباً واحداً: الجانب الخيّر.

يُشعرنا الروائي جبور الدويهي منذ دخوله على طفولة «نظام» بأنه يقوم بـ«ترويض» هذه الشخصية وإخضاعها لزاوية رؤيته. يلوح أن لدى المؤلف تصورا فلسفيا مثاليا عن المواطن اللبناني والهوية الوطنية اللبنانية، فسعى إلى خلق نموذج فوق بشري يُطابق ما يحلم به، ولكن وجود هذا النموذج في العالم المحسوس يبدو لي ضرباً من المستحيل.

لكن عند المراجعة قد لا تصمد هذه الملاحظة النقدية كثيراً، لأن العمل الأدبي له قوانينه الخاصة النابعة من داخله، وربما من الخطأ محاولة إخضاعه للخارج.. لسنن الحياة. هناك طائفة من الأدباء تتمسك بمقولة أن على الحياة الواقعية التشبه بالخيال الأدبي! إنها مقولة لا تخلو من طرافة، وفي الوقت نفسه هي في منتهى الجدية، لأن الأدب في معظم الحالات أرقى بكثير من الحياة التي نعيشها.

»شريد المنازل» رواية مجازية، حديقة من الرموز.. بعضها مُتفتح ظاهر، وبعضها الآخر مُحتجب وراء مستويات أعمق في النص. وتحليل الخريطة الرمزية للرواية سوف يحتاج منا إلى عدد مساوٍ لصفحات الرواية «257 صفحة» إن لم يكن أكثر. لكن سوف نكتفي بالإشارة إلى أن «نظام» وهو الشخصية الأساس، ترمز إلى «لبنان» المزدوج الهوية، والوطن المُنقسم روحياً والذي يأمل في أن يتركه العالم الخارجي في حاله لينعم بالتعايش السلمي بين أبنائه.

قدر «نظام» هو ذاته قدر «لبنان» أرضاً وإنساناً. فتح «نظام» شقته في بيروت لكل من هب ودب، كما فعل «لبنان» في ستينات وسبعينات القرن الماضي، حين فتح أبواب البلد على مصراعيها، وانتقلت إليه التنظيمات الحزبية والفصائل المسلحة وجحافل من أرباب الصحافة والثقافة. هلك «نظام» في الأيام الأولى من الحرب الأهلية، كحال الدولة اللبنانية أيضاً. والاسم «نظام» ذو دلالة صريحة، والروائي يؤكد هذا المغزى بأكثر من طريقة، وبالأخص حين يذكر أن هذا الاسم «نظام» محايد، لا يحمل خلفية إسلامية أو مسيحية.

حبكة الرواية متقنة، تبلغ ذروتها الفنية عندما يتم توقيف «نظام» عند حاجز أمني يسيطر عليه مسلحون مسيحيون، ويطلبون منه هويته، يقرؤون اسمه «نظام محمود» فيعرفون أنه مسلم، ويقررون إعدامه، لكن مخالطته للمسيحيين في قرية «حورا» الجبلية سوف تنقذه من موت محقق:

»قال إن رفاقه مسيحيون وتعلم في مدرسة للراهبات اللعازاريات، وراح يعدد أسماء الراهبات، الأخت بازيل، الأخت فرنسيسكا، مدموزيل لور. لم يعد يشعر بيد المسلح على كتفه تدفعه إلى الأمام فتشجع وأخرج برهانه الكبير فبدأ بصلاة الجناز بالسريانية، يقولها ملحنة كما يعرفها، بالصوت العالي، وسط الرصاص المتقطع والأوامر التي تسقط على سائقي السيارات وركابها: شوبوحو الموريو كلخن عامه والعترن باسمي طوبه وريح مدوران نسيمو نهوان.. صرخ به جورج أن يتوقف لكن لهجته كانت هادئة هذه المرة. رفع الكيس فجأة عن رأس نظام، نظر في وجهه وأمره: شكلك مسيحي، روح بسرعة.. أضاف: ولا تمر من هنا مجدداً» (2).

رغم قتامة الأجواء التي تسردها الرواية، فإن المؤلف لطّف منها بمسحة خفيفة من الدعابة. وحس الدعابة موهبة لا يمتلك ناصيتها إلا قلة من الكتاب، وبالنسبة لمؤلفنا جبور الدويهي فإنه قد أظهر تمكنه منها على مستويين: المستوى الأول أسلوب الكتابة، حيث نشعر بين الحين والآخر بوجود نغمة مرحة في السرد، وأن رنين الضحكات يكاد يُسمع من بين السطور. والمستوى الثاني المواقف الساخرة التي لا نملك إلا أن نضحك منها ونعجب بها. ولعل أفضلها هو موقف الشرطي الذي داهم شقة «نظام» أثناء اجتماعه مع رفاقه الشيوعيين، فاكتشف الرقيب أن أحدهم هو الابن الوحيد لقائد مفرزة طوارئ بيروت، فكاد من شدة ارتباكه أن يؤدي لابن الكولونيل التحية العسكرية!

تنقل إلينا الرواية مقطعاً فذاً من حياة بيروت اللاهية الصاخبة في سبعينات القرن الماضي، وحالة الحبور والمرح السائدة آنذاك:

»كادوا يتفرقون، ينسحبون، فاقترح عليهم نظام نزهة ليلية. الطقس جميل ولو على شيء من البرودة. كانوا يلمحون وميضاً خاطفاً من وقت لآخر في الأفق البحري. كان الربيع في بدايته والوقت مازال مبكراً.. توجهوا من دون تخطيط نحو الشوارع الساهرة في منطقة رأس بيروت وكان نظام الأكثر حماسة بينهم. يؤلفون كورساً متفاوت النبرات. سلكوا شارع فينيقيا صعوداً وهم ينتقلون من أغنية العشاق القدامى على اللحن الفرنسي الناعم والمعاناة الوجدانية المبحوحة إلى الإيقاع العسكري لـ «الراية الحمراء» وانتصارها الحتمي باللغة الإيطالية الثورية. لم يطل بهم المسير فوق الرصيف إذ انتقلوا إلى وسط الطريق، كانت السيارات تبطئ خلفهم وتنتظرهم أن يفسحوا لها مجالاً للمرور فيطلق السائقون منبهاتهم تحية لهم.. أطالوا تشردهم نحو جادة الإفرنسيين ومن ثم سلكوا كورنيش البحر حيث صفق لهم بعض المتنزهين المتكئين على الدرابزين فغنوا وغنوا إلى أن أزال هواء الليل المنعش أثر النبيذ الأحمر والفودكا من رؤوسهم وقد تعبت أصواتهم وأرجلهم فعادوا باتجاه المنارة حيث بدأوا يتفرقون، كل إلى بيته، وهم ينشدون خاتمة أغانيهم التي اقترحتها ديما وبدأت بمطلعها «كلنا مبحرون داخل غواصة صفراء» فصدحت أصواتهم بها في شوارع بيروت المعتمة» (3).

وهذا المشهد الزاخر بالحياة المنقول هنا بتصرف واختصار، يتمدد على مساحة أربع صفحات، وهو في تقديري يعد قطعة من روائع الأدب.

لاشك اليوم أن جبور الدويهي (4) هو واحد من الروائيين العرب الكبار، وهذه الرواية التي بين أيدينا هي خير دليل على علو كعبه في التأليف الروائي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) شريد المنازل: جبور الدويهي، رواية، دار النهار، بيروت، 2010.

(2) المصدر نفسه، ص 172.

(3) المصدر نفسه، ص 135ـ 137.

(4) جبّور الدويهي: روائي لبناني، صدرت له الكتب التالية عن دار النهار: اعتدال الخريف، رواية «ريا النهر»، رواية «عين وردة»، رواية «مطر حزيران»، رواية «الموت بين الأهل نعاس»، قصص. ونقلت معظم أعماله الروائية إلى لغات أوروبية متعددة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* وجدي الأهدل- روائي يمني.